الإقبال على القرآن في شعبان استعدادًا لشهر رمضان المعظم
فيجب أن يكون هذا القرآن في مَحِلَّ الاهتمام الزائد للمؤمنين عن بقية الأيام؛ لأنه إذا كان المرء يستعد لـ"رمضان" بالقرآن فاستعداده به لابد أن يكون سابقًا له؛ حتى إذا أتاه "رمضان" وجَدَ حلاوة القرآن ؛ لأنه قد تدرَّب عليها، وانشرح صدره بها، ودام لسانه عليه، وأقبل على التفكُّر فيه، والتدبُّر لآياته، والتذكُّر بها، ثم أنزل القرآن الكريم الذي هو الشفاء والرحمة على أمراضه وعلله التي يخشى منها سوء العاقبة، وإلَّا خرج من رمضان لم يُحَصِّل شيئًا.
فهذا القرآن قد واجهنا هذه الأيام، ونحن في هذه الحال السيئة من ضعف العزيمة، وضعف الهمة، والركون إلى الدنيا، وكذلك حالة الغفلة التي نحن فيها، وعدم الاستعداد للقاء الله تعالى، وإنَّ مما يشفي الصدور، ويُقَوِّي العزائم، ويرفع الهِمَمَ، ويكون سببًا للرحمة، والبركة التي يريد المرء أنْ يُحَصِّلَها أن يعود المرءُ مُنْكَبًّا على كتاب الله تعالى.
فقد كان السَّلف الصالح لهم حال عجيب مع كتاب الله تعالى ([1])؛ يريدون أن يُحَصُّلوا منه الشِّفاء الذي ذكر الله، و الهداية التي نَبَّه الله تعالى عليها، والبركة التي وصف بها كتابه.
أما الهداية والشفاء والبركة التي سنشير إليها إن شاء الله تعالى في القرآن الكريم، فهي مما يحتاجه النَّاس اليوم.
الحلُّ في كلام الله تعالى :
يلاحظ المرء أنَّ سَير المؤمنين والمتدينين - بصفة خاصة -في طريق الله تعالى سَيْرٌ متذبذب، متردد ليس مستقيمًا ، فضلًا عن أن يكون مترقيًا به إلى الله تعالى .
أَيْ: لا يكون في كل يوم في ازدياد ، في سيرٍ إلى الله تعالى، وإنما يسير يومًا أو يومين ، ثُمَّ يرجع عن الصلاة وعن الذِّكر، وعن القرآن، وتجد بينه وبين القرآن هذه الوَحشة. فحَلُّ ذلك: في كلام الله تعالى.
ثم إن المرء إذا أقبل على الشَّهوات، والصُّور والمناظِر والدنيا وشهواتها وغير ذلك وانطبع كل ذلك في قلبه حتى أخرجه إلى الغفلة، وأخرجه إلى المكروه، وأخرجه إلى المعاصي، وأخرجه إلى الوساوس، والخطرات السيئة التي تملأ قلبه لا يصفو له قلبه ويستقيم على طريق الله. و حَلُّ ذلك أيضا: في كلام الله تعالى.
والبركة في ذلك الزمان قد مُحِقَتْ أو كادت من كل شئ ، وهي مصيبة حَلَّت علينا بسبب قلة الطاعة والعبادة، وبسبب قلة الأُلفة، والتكافل والتراحم بين أهل الإيمان، وبسبب الإقبال على الدنيا والانشغال بها، والزهد في الآخرة والغفلة عنها، بسبب كثرة المعاصي والذنوب التي أحاطت بنا، وبسبب قلة الإخلاص والمحبة ومعرفة الله تعالى.
ارتفعت بركة الله تعالى، ارتفعت هذه البركة في الوقت والجهد ، والمال ، والولد ، فلم يَبْقَ وقت لأحد ليعمل فيه شيئًا، ولم يبق جهد ليقوم فيه بشيء، ولم يبق خُلُقٌ يستطيع أن يستوعب به شيئًا، وهكذا ارتفعت هذه البركات من بركات الله تعالى بسبب ما نحن فيه من سوء ومِن عدم رفع الأعمال الصالحة المنجية إلى الله تعالى.
و حَلُّ ذلك أيضا: في كلام الله تعالى.
وقد ذكر الله تعالى أن حل هذه المشاكل التي نواجهها إنما هي في الرجوع إلى كلامه سبحانه وتعالى؛ إذ القرآن سبب نزول البركة، وسبب انتشارها في الوقت، والجهد، والمال، والولد، والصحة حتى يستطيع المرء -كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بالأعمال التي لا يتخيل أنه يستطيعها.
تُراهم في هذا الوقت القصير الذي قضوه في الدنيا -رضوان الله تعالى عليهم- كانوا يستطيعون أن يفعلوا ذلك كله، أن يفتحوا الدنيا، وأن يجاهدوا، وأن يُصَلُّوا، وأن يقوموا لله تعالى، وأن يذاكروا العلوم الشرعية، وأن يسافروا المسافات البعيدة جداً للجهاد وطلب العلم، ولم يكن متيسرًا لهم هذه المركوبات التي يركبها النَّاس اليوم، ولا هذه الأمور التي تُخَفِّف عنهم مشاق الحياة، بل كانوا يتحملون كل هذه المشاق، وكل هذا التعب، ومع ذلك بُورِك لهم في وقتهم وبورك لهم في جهدهم، وبورك لهم في سعيهم، وبورك لهم في خطواتهم، وبورك لهم في مالهم وأولادهم، وبورك لهم في صحتهم؛ كان الضعيف منهم يقاتل على هذا النَّحو الذي سَمِعنا، ويُجْرَحُ ويقاتل، ويجرح ويقاتل ويعود، ولم يكن هناك ما يضمد به جراحه، أو من يقوم عليه بما تعود به صحته؟!
وسبب هذه البركات التي نزلت عليهم، وهذه الرحمات التي حَلَّت بهم هو القرآن الكريم، وانظر إلى ما رُفِعَ عنَّا منها. وإذا رُفِعَ شيء من ذلك فإنما نحن السبب ،
ثانيا الشفاء :
أُصِيب المؤمنون اليوم بأمراض كثيرة في قلوبهم وأبدانهم، وأمراض القلوب هي الأساس في ضعف الإيمان، وقلة الطاعة، والركون إلى الدنيا، والميل إلى الشهوات، ونسيان الآخرة، والغفلة عن الرحيل إلى الله تعالى، والاستعداد لذلك، والشوق إلى لقائه.
وهذا القرآن قد جاء ليستشفيَ المرء به من جميع العلل؛ من عِلل الشبهات والشهوات. وكلامُ الله تعالى صادق، ونحن المقصرون الخطَّاءون بسبب عدم تلقي هذا القرآن الكريم التلقي الحسن الذي ذكره الله تعالى في كتابه فلم ننتفع بهذه الموعظة، ولم ننتفع بهذا الشفاء.
] لَا بُدَّ وأن يكون كذلك، فإنَّ كلام الله تعالى لا خُلْفَ له، وانظر إلينا وإلى صدورنا، وما امتلأت به من الشَّهوات والشُّبهات، وما امتلأت به من الضعف والوَهْن، وما امتلأت به من الآفات والرذائل التي كانت سببًا لضعف البدن عن السير إلى الله تعالى، والتي كانت سببًا في غفلة المرء عن تذكر آخرته والإقبال عليها، تُرى لو كان صدره هذا قد شُفِيَ مما هو وتَعافى، وقويَ على الطاعة، وصار هذا القلب مستنيرًا بنور الإيمان، مُزهرا بِسِرَاجِه، قد انقمعت منه الشهوات، وانقطعت فيه الشبهات، سار بعد ذلك إلى الله تعالى؛ لأنه صار عَفِيًّا، قويًّا حيًّا كما يقول المولى في الآيات التي سنذكرها بعد قليل إن شاء الله تعالى.
ثالثا الهُدى :
والمؤمنون على هذه الحالة التي نحن فيها اليوم هدايتهم ناقصة لا شك، بدليل حالتنا التي كررنا وصفها من قبل. ثم يعود السؤال:
مَنْ الذي قد استقام على سيره، وازداد في درجاته، وقام إلى الله تعالى كما في الحديث القدسي: « يا ابن آدم : قم إليَّ أمشِ إليك» ([2]) ؟
وَمَنْ الذي أكثر وازداد من العمل الصالح، الذي أمره الله به؟
ومَنْ الذي كان على حَذَرٍ من الموت وخوف منه، إذا أصبح لا ينتظر المساء، وإذا أمسى لا ينتظر الصباح، وأخذ من دُنْيَاهُ لِآخرته، ومن حياته لموته، ومن صحته لمرضه ([3]) ، وسار هذا السَّير الذي يُنبئ على أنَّه قد خاف ربه وخشيه، وأنَّه قد أقبل عليه لا يتردد في إقباله سبحانه وتعالى، وتَعلَّق به تَعَلُّق الذي لا نجاة له إلا به، ولا فلاح له إلا فيه، ولا خروج له مما هو فيه إلا بأن يكون مُتَعَلِّقًا بالله تعالى؟
وَخَصَّ الله تعالى المؤمنين في تلك الآية الأخيرة بالهداية والشفاء فيه من دون الناس. ولأهمية الهداية فإن المؤمن يطلبها بالدعاء من الله في كل ركعة يصليها ) إهدنا الصراط المستقيم [الفاتحة:6] لاحتياجه الشديد لها، وللازدياد منها، وليهديه طرقها وأسبابها وما يكملها. لأنَّ الظالمين لا يزيدهم القرآن إلا خسارًا فلا ينتفع بهذه الهداية والرحمة وهذا الشفاء إلا المؤمنون، وذلك على قدر إيمانهم،فالكُمَّل هدايتهم ورحمتهم وشفائهم تامة ، وغيرهم على حسب إيمانهم.
، والمرء قد سمع الآيات هذه مرات كثيرة، ومع ذلك لم يستهدِ بهداية القرآن الكريم، بل حال المؤمنين اليوم الإعراض عن هذا الكلام،
قد هجروه علمًا وتَعَلُّمًا، وتلاوةً، وحفظًا، وعملًا، ودعوةً، وشفاءً، وتحكيمًا وتحاكما. هذه الأنواع من أنواع الهدي قد تُرِكَت حتى لم يكن القرآن على قلوبهم بهذا الشفاء، فهل لو كانوا مُصَدِّقين بأنَّه شفاء وأنَّه هدى، وأنَّه رحمة تراهم قد قصَّروا فيه؟!
مَن الذي حصل من ذلك شيئًا؟ من الذي حَزُنَ على أنه لم يحصل شيئًا؟ ومَن الذي حاول أن يجاهد على تحصيل شيء منها؟ ومَن الذي آلمه وأحزنه أن يبعد عن القرآن، وأن يكون بينه وبين القرآن هذه الوحشة، وأن يكون في الصَّفِّ الأخير الذي لم يُحصِّل من كلام الله تعالى لا شفاء ولا هدى ولا رحمة؟
([1]) قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن. قال الحسن بن سهل: قال شعبان: يا رب جعلتني بين شهرين عظيمين فما لي؟ قال: جعلت فيك قراءة القرآن. انتهى بتصرف من لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى.
([2]) سبق تخريجه.
([3]) وفي صحيح البخاري (6416) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ t قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِى فَقَالَ: «كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ».