الدليل الحادي عشر:
قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾
[الأنعام : 121] . وهذه الآية نزلت، لما قال المشركون: تأكلون ما قتلتم،
ولا تأكلون ما قتل الله. فأنزل الله هذه الآية . فإذا كان من أطاع المشركين
في تحليل الميتة مشركاً ـ من غير فرق بين الخائف و غيره، إلا المكره ـ
فكيف بمن أطاعهم في تحليل موالاتهم، و الكون معهم و نصرهم، و الشهادة أنهم
على حق، واستحلال دماء المسلمين و أموالهم، و الخروج عن جماعة المسلمين إلى
جماعة المشركين ؟؟. فهؤلاء أولى بالكفر و الشرك، ممن وافقهم على أن الميتة
حلال .
الدليل الثاني عشر:
قوله تعالى: ﴿
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾
[الأعراف : 175] وهذه الآية: نزلت في رجل عالم عابد، في زمان بني إسرائيل
يقال له: بلعام . وكان يعلم الاسم الأعظم. قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس:
لما نزل بهم موسى عليه السلام ـ يعني: بالجبارين ـ أتاه بنوا عمه و قومه،
فقالوا : إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة. و أنه إن يظهر علينا يهلكنا،
فادع الله أن يرد عنا موسى و من معه. قال: إني إن دعوت ذهبت دنياي و آخرتى.
فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه؛ فذلك قوله: ﴿ فأنسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ﴾
وقال ابن زيد : كان هواه مع القوم، يعني: الذين حاربوا موسى و قومه. فذكر
تعالى: أمر هذا المنسلخ من آيات الله بعد أن أعطاه الله إياها، و عرفها و
صار من أهلها، ثم انسلخ منها. أي: ترك العمل بها، و ذكر في انسلاخه منها،
ما معناه: أم مظاهرة المشركين و معاونتهم برأيه، و الدعاء على موسى عليه
السلام ومن معه أن يردهم الله عن قومه؛ خوفاً على قومه و شفقة عليهم. مع
كونه يعرف الحق و يقطع به، و يتكلم به ويشهد به، و يتعبد. و لكن صده عن
العمل به: متابعة قومه و عشيرته وهواه، و إخلاده إلى الأرض. فكان هذا
إنسلاخاً من آيات الله. وهذا هو الواقع من هؤلاء المرتدين، و أعظم. فإن
الله أعطاهم آياته التي فيها الأمر بتوحيده و دعوته وحده لا شريك له، و
النهي عن الشرك به و دعوة غيره، و الأمر بموالاة المؤمنين و محبتهم و
نصرتهم، و الإعتصام بحبل الله جميعاً، و الكون مع المؤمنين، و الأمر
بمعاداة المشركين و بغضهم و جهادهم و فراقهم، و الأمر بهدم الأوثان، و
إزالة القحاب و اللواط و المنكرات. و عرفوها و أقروا بها، ثم انسلخوا من
ذلك كله. فهم أولى بالانسلاخ من آيات الله و الكفر و الردة من بلعام، أو هم
مثله.
الدليل الثالث عشر:
قوله تعالى:
﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ
وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾
[هود : 113] . فذكر تعالى: أن الركون إلى الظلمة من الكفار و الظالمين
موجب لمسيس النار، ولم يفرق بين من خاف منهم، و غيره. إلا المكره. فكيف بمن
اتخذ الركون إليهم ديناً و رأياً حسناً، و أعانهم بما قدر عليه من مال و
رأي ، و أحب زوال التوحيد و أهله، واستيلاء أهل الشرك عليهم...؟!! فإن هذا
من أعظم الكفر و الركون.
الدليل الرابع عشر:
قوله تعالى: ﴿
مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
[النحل : 106]. فحكم تعالى حكماً لا يبدل: أن من رجع عن دينه إلى الكفر،
فهو كافر. سواء كان له عذر ـ خوف على نفس، أو مال أو أهل ـ أم لا. وسواء
كفر بباطنه وظاهره ، أم بظاهره دون باطنه. وسواء كفر بفعاله و مقاله، أم
بأحدهما دون الآخر. وسواء كان طامعاً في دنيا ينالها من المشركين أم لا.
فهو كافر على كل حال، إلا المكره، و هو في لغتنا: المغصوب . فإذا أكره
الإنسان على الكفر، وقيل له: أكفر و إلا قتلناك، أو ضربناك. أو أخذه
المشركون فضربوه، و لم يمكنه التخلص إلا بموافقتهم. جاز له موافقتهم في
الظاهر، بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان. أي: ثابتاً عليه، معتقداً له.
فأما إن وافقهم بقلبه: فهو كافر، و لو كان مكرهاً. وظاهر كلام أحمد رحمه
الله: أنه في الصورة الأولى. لا يكون مكرها حتى يعذبه المشركون؛ فإنه لما
دخل عليه يحيي بن معين وهو مريض، فسلم عليه: لم يرد عليه السلام، فما زال
يعتذر، و يقول: حديث عمار و قال الله: ﴿ إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان ﴾
فقلب أحمد وجهه الى الجانب الآخر. فقال يحيى: لا يقبل عذراً !!فلما خرج
يحيي. قال أحمد: يحتج بحديث عمار. وحديث عمار : مررت بهم وهم يسبونك
فنهيتهم فضربوني . و أنتم قيل لكم: نريد أن نضربكم. فقال يحيى: ما رأيت و
الله تحت أديم سماء الله أفقه في دين الله منك . ثم أخبر تعالى: أن على
هؤلاء المرتدين، الشارحين صدورهم بالكفر ـ و إن كانوا يقطعون على الحق ، و
يقولون ما فعلنا هذا إلا خوفاً _ غضب من الله ولهم عذاب عظيم. ثم أخبر
تعالى: أن سبب هذا الكفر و العذاب ليس بسبب الاعتقاد للشرك أو الجهل
بالتوحيد، أو البغض للدين أو محبه للكفر؛ و إنما سببه: أن له في ذلك حظا ً
من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين وعلى رضى رب العالمين. فقال: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
[النحل : 107] فكفرهم تعالى، و أخبر أنه لا يهديهم مع كونهم يعتذرون بمحبة
الدنيا. ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين لأجل استحباب الدنيا على الآخرة
هم الذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم، و أنهم الغافلون . ثم
أخبر خبراً مؤكداً محققاً: أنهم في الآخرة هم الخاسرون .
الدليل الخامس عشر:
قوله تعالى عن أهل الكهف ﴿ إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا ﴾ .
فذكر تعالى عن أهل الكهف _ أنهم ذكروا عن المشركين _: إن قهروكم و غلبوكم،
فهم بين أمرين: إما أن يرجموكم. أي: يقتلوكم شر قتلة بالرجم . و إما أن
يعيدوكم في ملتهم و دينهم، و لن تفلحوا إذا أبداً. أي: و إن وافقتموهم على
دينهم بعد أن غلبوكم و قهروكم ، فلن تفلحوا إذا أبداً. فهذا حال من وافقهم
بعد أن غلبوه.فكيف بمن وافقهم وراسلهم من بعيد، وأجابهم إلى ما طلبوا من
غير غلبة ولا إكراه...؟!ومع ذلك يحسبون أنهم مهتدون.
الدليل السادس عشر:
قوله تعالى: ﴿
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى
وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ ﴾ [الحج : 11] . فأخبر تعالى: أن ﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف ﴾ . أي على طرف. ﴿ فإن أصابه خير ﴾ أي: نصر و عز و صحة، وسعة و أمن وعافية و نحو ذلك ﴿ اطمأن به ﴾ . أي: ثبت، و قال: هذا دين حسن. ما رأينا فيه إلا خيراً . ﴿ و إن أصابته فتنة ﴾ . أي: خوف ومرض وفقر و نحو ذلك ﴿ انقلب على وجهه ﴾
. أي: ارتد عن دينه، ورجع إلى الشرك . فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين
عن دينهم في هذه الفتنة سواء بسواء؛ فإنهم قبل هذه الفتنة يعبدون الله على
حرف. أي: على طرف. ليسوا ممن يعبد الله على يقين و ثبات. فلما أصابتهم هذه
الفتنة، انقلبوا عن دينهم و أظهروا موافقة المشركين، و أعطوهم الطاعة، و
خرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين. فهم معهم في الآخرة، كما هم
معهم في الدنيا. فخسوا الدنيا و الآخرة، ذلك هو الخسران المبين. هذا مع أن
كثيراً منهم في عافية، ما أتاهم عدو . و إنما ساء ظنهم بالله، فظنوا: أنه
يديل الباطل و أهله على الحق و أهله. فأرداهم سوء ظنهم بالله؛ كما قال
تعالى فيمن ظن به ظن السوء ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ ﴾
[فصلت : 23]. فأنت يا من منَّ الله عليه بالثبات على الإسلام: احذر أن
يدخل قلبك شيء من الريب، أو تحسين أمر هؤلاء المرتدين، و أن موافقتهم
للمشركين و إظهار طاعتهم رأي حسن؛ حذراً على الأنفس و الأموال و المحارم.
فإن هذه الشبهة: هي التي أوقعت كثيراً من الأولين و الآخرين في الشرك
بالله، ولم يعذرهم الله بذلك. و إلا فكثير منهم يعرفون الحق و يعتقدونه
بقلوبهم، و إنما يدينون بالشرك للأعذار الثمانية التي ذكرها الله في كتابه،
أو لبعضها . فلم يعذر بها أحداّ ولا ببعضها ؛ فقال ﴿
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ
إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ
فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة : 24] .
الدليل السابع عشر:
قوله تعالى: ﴿
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ*ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴾ [محمد
: 26]. فذكر تعالى عن المرتدين على أدبارهم: أنهم من بعد ما تبين لهم ،
ارتدوا على علم. و لم ينفعهم علمهم بالحق مع الردة، و غرهم الشيطان بتسويله
و تزيين ما ارتكبوه من الردة. وهكذا حال هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة:
غرهم الشيطان و أوهمهم أن الخوف عذر لهم في الردة، و أنهم بمعرفة الحق و
محبته و الشهادة به لا يضرهم ما فعلوه. و نسوا أن كثيراً من المشركين
يعرفون الحق، و يحبونه و يشهدون به: و لكن يتركون متابعته والعمل به؛ محبة
للدنيا ، و خوفاً على الأنفس و الأموال و المأكل و الرياسات. ثم قال تعالى:
﴿ ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض ﴾
فأخبر تعالى: أن سبب ما جرى عليهم من الردة وتسويل الشيطان، و الإملاء
لهم، هو قولهم للذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر. فإذا كان من
وعد المشركين الكارهين لما نزل الله بطاعتهم في بعض الأمر كافراً، و إن لم
يفعل ما وعدهم به. فكيف بمن وافق المشركين الكارهين لما نزل الله من
الأمر: بعبادته وحده لا شريك له، و ترك عبادة ما سواه من الأنداد والطواغيت
والأموات، و أظهر أنهم على هدى، و أن أهل التوحيد مخطئون في قتالهم، و أن
الصواب مسالمتهم و الدخول في دينهم، الباطل ؟!. فهؤلاء أولى بالردة من
أولئك الذين و عدوا المشركين بطاعتهم في بعض الأمر. ثم أخبر تعالى عن حالهم
الفظيع عند الموت ثم قال: (ذلك). أي : الأمر الفظيع عند الوفاة (بأنهم
اتبعوا ما أسخط الله و كرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم). ولا يستريب مسلم ، أن
اتباع المشركين و الدخول في جملتهم و الشهادة أنهم على حق، و معاونتهم على
زوال التوحيد و أهله، و نصرة القباب و القحاب و اللواط: من اتباع ما يسخط
الله و كراهة رضوانه، و إن ادعوا أن ذلك لأجل الخوف. فإن الله ما عذر أهل
الردة بالخوف من المشركين. بل نهى عن خوفهم. فأين هذا ممن يقول: ما جرى منا
شيء، ونحن على ديننا !!!.
الدليل الثامن عشر:
قوله تعالى: ﴿
أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن
قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الحشر : 11] . فعقد تعالى الأخوة بين المنافقين و بين الكفار. و أخبر أنهم يقولون لهم في السر: ﴿ لئن أخرجتم لنخرجن معكم ﴾ . أي: لئن غلبكم -محمد صلى الله عليه وسلم- و أخرجكم من بلادكم لنخرجن معكم، ﴿ ولا نطيع فيكم أحداً أبداً ﴾ . أي: لا نسمع من أحد فيكم قولا ً، ولا نعطي فيكم طاعة ﴿ و إن قوتلتم لننصرنكم ﴾ و
نكون معكم. ثم شهد تعالى: أنهم كاذبون في هذا القول. فإذا كان وعد
المشركين في السر – بالدخول معهم و نصرتهم و الخروج معهم إن جلوا – نفاقاً و
كفراً و إن كان كذباً. فكيف بمن أظهر لهم ذلك صادقاً، وقدم عليهم، ودخل في
طاعتهم، ودعا إليها، و نصرهم و انقاد لهم، وصار من جملتهم و أعانهم بالمال
و الرأي...؟! هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك إلا خوفاً من الدوائر؛
كما قال تعالى: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ
فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ
فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾
[المائدة : 52] . وهكذا حال كثير من المرتدين ، في هذه الفتنة: فإن عذر
كثير منهم، هو هذا العذر الذي ذكره الله عن الذين في قلوبهم مرض. و لم
يعذرهم به؛ قال الله تعالى: ﴿ فَعَسَى اللّهُ أَن
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا
أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ [المائدة : 52] ثم قال تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ
يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة : 54]
فأخبر تعالى، أنه لابد عند وجود المرتدين: من وجود المحبين المحبوبين
المجاهدين. ووصفهم بالذلة والتواضع للمؤمنين، والعزة والغلظة والشدة على
الكافرين. بضد من كان تواضعه وذله ، ولينه: لعباد القباب، وأهل القحاب
واللواط. وعزته، وغلظته: على أهل التوحيد والإخلاص !!!. فكفى بهذا دليلاً
على كفر من وافقهم. و إن ادعى أنه خائف؛ فقد قال تعالى ﴿ ولا يخافون لومة لائم ﴾ . وهذا بضد من يترك الصدق، و الجهاد: خوفاً من المشركين. ثم قال تعالى: ﴿ يجاهدون في سبيل الله ﴾ . أي: في توحيده، صابرين على ذلك ابتغاء وجه ربهم؛ لتكون كلمته هي العليا ﴿ ولا يخافون لومة لائم ﴾
. أي لا يبالون بمن لامهم و آذاهم في دينهم. بل يمضون على دينهم مجاهدين
فيه، غير ملتفتين للوم أحد من الخلق ولا لسخطه ولا رضاه و إنما همتهم و
غاية مطلوبهم رضى سيدهم و معبودهم، والهرب من سخطه. وهذا بخلاف من كانت
همته وغاية مطلوبه: رضى عباد القباب، و أهل القحاب و اللواط و رجاءهم ،
والهرب مما يسخطهم !!!. فإن هذا غاية الضلال و الخذلان. ثم قال تعالى: ﴿ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم ﴾ فأخبر
تعالى: أن هذا الخير العظيم، و الصفات الحميدة لأهل الإيمان الثابتين على
دينهم عند وقوع الردة و الفتن: ليس بحولهم ولا بقوتهم، و إنما هو فضل الله
يؤتيه من يشاء ؛ كما قال ﴿ يختص برحمته من يشاء و الله ذو الفضل العظيم ﴾ . ثم قال تعالى ﴿
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ [المائدة
: 55] فأخبر تعالى _ خبراً بمعنى الأمر _: بولاية الله ورسوله و المؤمنين،
وفي ضمنه النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله و المؤمنين. ولا يخفي: أي
الحزبين أقرب _ إلى الله ورسوله وإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة _. أأهل
الأوثان و القباب و القحاب واللواط و الخمور و المنكرات، أم أهل الإخلاص و
إقام الصلاة و إيتاء الزكاة....!!!؟ فالمتولي لضدهم: واضع للولاية في غير
محلها، مستبدل بولاية الله ورسوله و المؤمنين _ المقيمين للصلاة المؤتين
الزكاة ولاية أهل الشرك و الأوثان و القباب. ثم أخبر تعالى: أن الغلبة
لحزبه، و لمن تولاهم؛ فقال: ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [المائدة : 56] .
الدليل التاسع عشر:
قوله تعالى ﴿ لا تجد قوماً يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أوأبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ﴾
الآية . فأخبر تعالى: أنك لا تجد من يؤمن بالله و اليوم الآخر، يوادون من
حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب. و أن هذا مناف للإيمان مضاد له، لا
يجتمع هو و الإيمان إلا كما يجتمع الماء و النار؛ وقد قال تعالى في موضع
آخر : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ
الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [التوبة : 23] ففي هاتين الآيتين، البيان
الواضح: أنه لا عذر لأحد في الموافقة على الكفر، خوفاً على الأموال و
الآباء، و الأبناء و الأزواج و العشائر، ونحو ذلك مما يتعذر به كثير من
الناس. إذا كان لم يرخص لأحد في موادتهم، واتخاذهم أولياء بأنفسهم: خوفاً
منهم و إيثاراً لمرضاتهم. فكيف بمن اتخذ الكفار الأباعد أولياء و أصحاباً، و
أظهر لهم الموافقة على دينهم، خوفاً على بعض هذه الأمور و محبة لها ؟! ومن
العجب استحسانهم لذلك، و استحلالهم له، فجمعوا مع الردة استحلال المحرم .
الدليل العشرون:
قوله تعالى: ﴿ يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ﴾ إلى قوله: ﴿ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ﴾ . فأخبر تعالى: أن من تولى أعداء الله – و إن كانوا أقرباء _ ﴿ فقد ضل سواء السبيل ﴾
. أي: أخطأ الصراط المستقيم، وخرج عنه إلى الضلال . فأين هذا ممن يدعي أنه
الصراط المستقيم لم يخرج عنه !! فإن هذا تكذيب لله، ومن كذب الله فهو
كافر. واستحلال لما حرم الله: من ولاية الكفار. ومن استحل محرماً ، فهو
كافر. ثم ذكر تعالى شبهة من اعتذر بالأرحام و الأولاد؛ فقال: ﴿ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم و الله بما تعملون بصير ﴾
فلم يعذر تعالى من اعتذر بالأرحام و الأولاد، و الخوف عليها ومشقة
مفارقتها . بل أخبر أنها لا تنفع يوم القيامة، ولا تغني من عذاب الله شيئاً
؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ﴾ [المؤمنون : 101].
الدليل الحادي والعشرون:
من السنة، ما رواه أبو داود، وغيره عن سمرة بن جندب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : (من جامع المشرك، وسكن معه فإنه مثله)
فجعل -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: من جامع المشركين _ أي اجتمع
معهم، و خالطهم وسكن معهم مثلهم . فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على دينهم، و
آواهم و أعانهم!!؟. فإن قالوا: خفنا !. قيل لهم: كذبتم. و أيضاً فليس
الخوف بعذر؛ كما قال تعالى: ﴿ ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ﴾
فلم يعذر تبارك و تعالى من يرجع عن دينه عند الأذى و الخوف. فكيف بمن لم
يصبه أذى ولا خوف، و إنما جاء إلى الباطل محبة له و خوفاً من الدوائر.؟!.
والأدلة على هذا كثيرة. وفي هذا كفاية لمن أراد الله هدايته. وأما من أراد
الله فتنته و ضلالته ؛ فكما قال تعالى: ﴿ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الأليم ﴾
. و نسأل الله الكريم المنان: أن يحيينا مسلمين، و أن يتوفانا مسلمين، و
أن يلحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين برحمته وهو أرحم الراحمين. و
صلى الله علي محمد وعلى آله و صحبه و سلم . .
رسالة للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.